كوريا تحفظ تراثها رغم تبعيّتها للغرب
الارتباط المطلق بالغرب في الجانبين السياسي والليبرالي الاقتصادي بالمعنى الرأسمالي، لا يمنع كوريا الجنوبية من التمسّك بتراثها الغني وتقاليدها العريقة التي يعكسها جانب من الشارع، رغم مظاهر تغريب تعبّر عن نفسها باعتناق «الستايل» الأميركي في اللباس والطعام ونمط الحياة. صورة حضارية مزدوجة لبلد منقسم إلى شطرين منذ خمسينيات القرن الماضي
تبدو صورة الكوريين الجنوبيين من بعيد كما لو أنهم سلّموا للغرب كل أوراقهم لدرجة الذوبان في حضارة العم سام، مقابل حمايتهم من أشقائهم «المرتدين» في الشطر الشمالي. بيد أن الواقع، بعيداً عن الالتزامات السياسية والعسكرية بين سيول وواشنطن، يشي بصورة أخرى تؤكد تمسّك الكوريين بإرثهم التقليدي رغم المستوى الرفيع من الانفتاح على الغرب. صورة يمكن أن يلحظها المرء من خلال التمسك بالتراث، بدءاً من عيدان الطعام أو الـ«غيوسغالاغ»، مروراً بالترويج المكثّف لأطباقهم التقليدية، وتعصّبهم للغتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وصولاً إلى صناعة السياحة القائمة على التعريف بهويتهم الحضارية ومعالمهم التاريخية التي تحكي قصة السلطة والحروب المتعددة.
ففي هذه الجمهورية الواقعة في منطقة شمال شرق آسيا، بين اليابان والشرق الأقصى جنوباً والصين وروسيا شمالاً، ثمة اختلاف واضح حتى ضمن الجيل الواحد في نظرته إلى الانفتاح الحضاري؛ ففيما يبرّر كاي، الشاب اليافع، تمسّكه باستخدام الـ«غيوسغالاغ » أو «الشوبستكس» بدلاً من السكين والشوكة، معللاً بأنه طريقة صحيّة تجعل المرء يعتاد الصبر ويساعد على هضم المأكولات بهدوء، يشدد زميله يانغ الذي درس في الولايات المتحدة على أن «الفاست فوود» الأميركي أكثر لذة وأسهل إعداداً.
في أحد المطاعم التقليدية، حيث تُقدّم الأسماك على أنواعها، يلتهم سونغ طبقاً من الطعام الشعبي المكوّن من خضر وأسماك وأشياء أخرى، مصرّاً على أن هذا الطعام صحّي أكثر من المأكولات الغربية المشبعة بالدهون. هنا تجد، رغم توافر المطاعم العالمية، أن محالاً وأكشاكاً لبيع الأطعمة الشعبية منتشرة بكثافة، لدرجة تزكم الأنوف لكثرة استخدام التوابل والزيوت.
الكوريون أيضاً يتمسكون بلغتهم. دونغ لا يتقن الإنكليزية جيداً، ويفضّل الحديث عن أهمية اللغة القومية، معتبراً أن «اللغة الكورية غير معيبة»، متسائلاً «لماذا نحن مُجبرون على تعلّم الإنكليزية؟». كلام دونغ يؤكد سبب وجود نزر يسير من الكوريين يتحدثون الإنكليزية، رغم مرور أكثر من ستين عاماً على تحالف كوريا الجنوبية مع الولايات المتحدة.
بيد أن الآنسة لي، كما رغبت في مناداتها، تصرّ على أهمية اللغات الأجنبية لشعبها، قائلة «ما دمنا منخرطين في علاقات دولية واسعة، وما دمنا بحاجة إلى الولايات المتحدة لصدّ الشيوعيين عنّا، ينبغي علينا معرفة اللغات الغربية». يجيب رفيقها ميونغ بحدّة «ماذا نستفيد إذا لم نحترم لغتنا؟ لقد أصبحنا من بين الدول الصناعية الكبرى العشرين «جي 20»، ونحن في تطوّر مستمر مع الحفاظ على هويتنا ولغتنا. لا أجد أبداً أن سؤال الهوية يتعارض مع التطور التقني». ويصل إلى حد التساؤل «لماذا لا يدرس الغربيون لغتنا؟».
الحفاظ على اللغة لم يمنع بعض العادات الأميركية من التغلغل في نسيج المجتمع الكوري، من خلال التأثير الإعلامي الغربي الكبير على الناشئة والشباب، حيث تزدهر الحانات ومرابع الرقص الغربي ومحال الـ«سكس شوب». تبدو بعض تفاصيل الشارع الأميركي على أجساد شبّان ذوي وجوه صفراء دخلوا عالم «الهيب هوب» وقد صبغوا شعورهم بلون أشقر، في محاكاة صارخة للنمط الأميركي، إضافة إلى أن لعبتي «البيس بول» و«الغولف»، أصبحتا جزءاً من التراث الرياضي الكوري.
لا يقتصر صراع الهوية بين جيلين على الطعام، فهناك محاولات دؤوبة للترويج للتراث الكوري عبر رحلات سياحية إلى معالم تحكي تاريخ هذا البلد. لعل الرحلة التي تنظمها كتيبة الجيش الكوري العاملة في جنوب لبنان لمجموعة من اللبنانيين كل ستة أشهر، تصبّ في هذا الإطار.
برنامج سياحي ثقافي
يبدو المشهد جميلاً من خلال الاستقبال الرائع الذي يحظى به اللبنانيون لدى زيارتهم كوريا، ولقاءاتهم مع ضباط خدموا في لبنان، على غرار رئيس قسم القوات الأجنبية في الجيش الكوري، كيم وو شول، الذي استضاف الوفد اللبناني على عشاء في هيئة الأركان، مرحّباً بلهجة عربية مكسّرة «السلام آليكم»، ليتابع بالكورية «أشعر بأن اللبنانيين أهلي وإخوتي. لقد كنتم ودودين جداً معنا في جنوب لبنان. أشكركم». الجنرال كيم، بكل تواضع، أصرّ على توديع الوفد حتى الحافلة التي أقلّته إلى الفندق.
ورغم وجود بعض أبناء الجالية العربية في سيول، إلّا أن لغة الضاد مثل غيرها من اللغات تكاد تكون مجهولة، مع أن هناك قسماً لتدريس العربية في جامعة سيول. لدى وصولنا إلى المطار العسكري في العاصمة، حيث رافقتنا مترجمة «اليونيفيل» جانغ مين كيونغ أو «نجمة»، كما تحب مناداتها، كانت المفاجأة في جواب نجمة لدى سؤالها عن سبب دراستها للغة العربية بقولها «أرى أنها لغة المستقبل». نجمة، التي تتفاءل بمستقبل العرب، خلافاً لأبنائهم، درست في دمشق لشهور قليلة، وهي تتقن العربية الفصحى، لكنها تتوق إلى فهم اللهجات المحكية التي تتعلمها في جنوب لبنان الآن.
أمّا كيون باي بارك، المُجنّد الذي عاد من الولايات المتحدة لخدمة كوريا مدة سنتين (هي فترة خدمة العلم)، فقد اختير لمرافقة الوفد اللبناني خلال رحلته إلى كوريا لتسهيل التواصل مع الأفراد الذين يتقنون الإنكليزية. يبدو كيون متحمّساً للتكنولوجيا، إلى درجة أن «الآيباد» لا يفارقه خلال جولاته، وهو يجد فرصته في إرساله إلى لبنان ضمن وحدة «اليونيفيل»، لأنها تساعده على تحقيق رصيد مالي جيد لدى عودته إلى الولايات المتحدة يعينه على إكمال دراسته الجامعية. ذلك أن راتب المُجنّد (خدمة العلم) في كوريا لا يتعدى مئة دولار، أما انضمامه إلى اليونيفيل فسيوّفر له نحو 1700 دولار أميركي شهرياً. كيون قد يكون نموذجاً للشاب المتأثر بالغرب والمحبّ لبلاده في آن. فرغم أن حياته ومستقبله في أميركا، إلا إن تاريخه وحبيبته التي سيغيب عنها 6 أشهر متواصلة، هما في كوريا.
في اختصار، يُجمع كل من شارك في برنامج «عبر البحار»، الذي تنظمه وزارة الدفاع الكورية، على البعد الثقافي الاجتماعي. فلكوريا الجنوبية، البالغ عدد سكانها نحو 50 مليون نسمة، تاريخ عريق وتراث غني غير الصناعات والتكنولوجيا الحديثة. وهذه الحضارة حسبما يرى أحد المسؤولين لا تزال مجهولة بالنسبة إلى العرب. «لذلك تحاول سيول الانفتاح على العالم العربي الذي ترتبط بعض دوله بعلاقات قوية مع بيونغ يانغ».
لعل أبرز المعالم الفائقة الجمال، تلك الواقعة في قصر «غيونغبوك» في سيول. قصر يعود تاريخ بنائه إلى القرن الرابع عشر، أقامت فيه سلالة جوسون الحاكمة، التي اتخذت من هانيانغ (سيول اليوم) عاصمة لها.
هذا القصر الذي يمتد على مساحة شاسعة ويضم في ساحاته العديد من المباني والحدائق والبرك المائية، ضُمّ إلى قائمة الذاكرة التاريخية العالمية في منظمة الأونيسكو. وقد تعرّض لحريق أتى على بعض معالمه، إبان فترة الاحتلال الياباني الأول لكوريا عام 1592.
في «البيت الكوري» يمكن الزائر أن يتعرّف إلى نمط الحياة هناك، في مكان يشبه البيوت التقليدية، يقدَّم في جانب منه الأطعمة والمشروبات من المطبخ الغني بالمقبّلات والوجبات المتنوعة، وفي الجانب الآخر صالة لتقديم عروض فنية وموسيقية ومسرحية تعرّف الزائر إلى مظاهر الاحتفال بالزفاف الكوري والصور الثقافية والفولكلورية. البيت الكوري الواقع وسط سيول في منطقة جونغ كو، بُني عام 1980، في مكان المنزل الخاص للعالم بارك بينغ نيون الذي عاش في عصر مملكة جوسون، في عهد الملك سيجونغ.
من المفيد الإشارة إلى أن المشهد الكوري التقليدي الذي يبدأ مع قصر غيونغبوك يمرّ أيضاً بالقرية الفولكلورية في مدينة «يونغ إن سيتي» في ضواحي العاصمة. في هذه القرية يمكن اكتشاف الحياة التقليدية للمواطن البسيط، حيث التدفئة المركزية على الحطب والبيوت المصنوعة من الطين والقش. تجسّد هذه القرية مشاهد من الحياة القروية والدكاكين الصغيرة وحظائر المواشي والطرقات المُوحلة. كذلك يمكن الزائر أن ينظر إلى طريقة الجلوس على مائدة الطعام وإعداد المأكولات، إضافة إلى الحرف اليدوية البسيطة التي يقوم بها بعض المتطوّعين من كبار السن.
وفي المتحف الوطني الضخم، الذي استضاف في إحدى قاعاته العام الماضي قمة مجموعة العشرين الاقتصادية «جي-20»، موجودات قديمة لا تقدّر بثمن. ففي هذا المتحف الواقع في منطقة يونغ سان غو وسط سيول، تقع عيناك على كل ما هو جميل من جرار وقدور وتماثيل بوذية ضخمة وتحف فنية ومشغولات يدوية مصنوعة من الذهب الخالص أو الخزف والزجاج والنحاس وأدوات الحرب. مبان حديثة جداً، ومزودة بكافة وسائل الراحة والإرشاد السياحي. يتألف هذا المتحف من جناحين، جناح خاص بالمخطوطات وآخر بالرسوم، إضافة إلى الموجودات القديمة على أنواعها، التي خصصت لها أجنحة كبيرة. وهناك متحف خاص بالأطفال مزوّد ببعض ألعاب الفيديو للتسلية.
المفارقة أن العلاقة بين سيول وعواصم الغرب لم تجعل هذا البلد الآسيوي قبلة السياح الغربيين، بل لا تزال السياحة في كوريا تعتمد على الصينيين واليابانيين بدرجة أكبر، رغم التاريخ الأسود الذي صنعته اليابان في كوريا أثناء اجتياح الأولى للثانية في القرن التاسع عشر.
---
تعزيز الروابط الثقافية بين لبنان وكوريا
يشرح سفير جمهورية كوريا لدى لبنان، يونغ ها لي، الهدف من برنامج «عبر البحار» السياحي، قائلاً إنه «يسعى إلى تعزيز الروابط الثقافية وتعريف اللبنانيين إلى حضارة طالما كانت مجهولة بالنسبة إليهم. ويبرّر السفير هذه المشاريع التنموية التي تقوم بها بلاده في الجنوب اللبناني وتنظيم رحلات للبنانيين، بأنها عربون تقدير لموقف لبنان الذي قدّم دعماً إلى سيول ضد بيونغ يانغ خلال الحرب الكورية (1950ـــــ1953). ويشير أحد منظّمي هذا البرنامج المموّل تمويلاً كاملاً من الحكومة الكورية إلى أن مرافقة المجموعات اللبنانية لعديد «اليونيفيل» الذين أنهوا خدمتهم (ستة أشهر) في الجنوب، ومن ثم العودة مع البديل بعد عشرة أيام، يجعل بعض الضباط والعناصر راضين عن ردّهم للجميل الذي شاهدوه في تعاون أهل الجنوب اللبناني معهم، حيث يتابعون كل تفاصيل البرنامج ويقدمون التسهيلات والترجمة لأعضاء الوفد.
المنطقة الأمنيّة بين الكوريّتين: آخر شواهد الحرب الباردة
نقطة تفتيش مشتركة أميركية كورية جنوبيّة في منطقة بانمونجوم الحدودية (أرشيف)
وسط ضباب كثيف وبرد قارس، شقّت الحافلة طريقها من العاصمة الكورية الجنوبية سيول الى منطقة بانمونجوم الحدودية، حيث تظهر آخر رموز الحرب الباردة. هنا الخط الفاصل بين الكوريتين. خط يفصل بين عائلة واحدة ينتمي بعض أفرادها إلى رؤية ماركسية لينينية فيما فضّل آخرون منها سهولة الحياة على الطريقة الرأسمالية، لكن ما فرّقته العقيدة جمعه الذكاء
كانت الرحلة شاقة وطويلة لا تخلو من بعض قلق وتوتر، خوفاً من انفلات الأمور، وخصوصاً في أجواء التصعيد الذي شهدته شبه الجزيرة الكورية خلال الأشهر الأخيرة. قلق يتصاعد داخلك لدى حديثك مع بعض الكوريين الجنوبيين الذين ينظرون الى الكوريين الشماليين على أنهم «مجانين» يمكن أن يغيّروا قواعد الاشتباك في أي وقت. في لحظة التفكير هذه، تأتيك أوامر الضابط المرافق، مسؤول مكتب التعاون المدني العسكري، المقدّم كيم نام هيون، قائلاً «عليكم التزام التعليمات وعدم الحركة من دون سؤالنا، ممنوع عليكم وضع أيديكم في جيوبكم، وممنوع التصوير إلّا لشخص واحد وحسب تعليماتنا».
هو مجرد هاجس لا يصمد طويلاً أمام إدراك حجم البروباغاندا التي يستخدمها الطرفان واحدهما ضدّ الآخر منذ انقسام الكوريتين في عام 1948إلى شمال ستاليني ذي اقتصاد موجّه وسياسة صارمة يحكمها زعيم الحزب الواحد، إزاء جنوب منفتح اقتصادياً وديموقراطي يعتمد تعددية حزبية وانتخابات وحريّات عامة.
بروباغندا تصاحبك عند كل حديث سياسي عن حرب الكوريتين، من دون أن تفكر بتبرئة ساحة الشماليين الذين حوّلوا نظرية إنسانية (الشيوعية) الى غطاء لحكم وراثي خلّد الزعيم الراحل كيم سونغ ايل وأبناءه في جمهورية كوريا الديموقراطية الاشتراكية (الشمالية).
لكن «ارتداد» الشقيق لا يبرّر هذه العلاقة التبعيّة للولايات المتحدة، التي يراها بعض الكوريين ضرورة سابقة لا داعي لها اليوم. بيد أن مدير متحف المدرسة الحربيّة في العاصمة الكورية، يونغ مين شوي، يرى أن دعم الولايات المتحدة لكوريا الجنوبية ضروري جداً في ظل تهديد الشماليين لشبه الجزيرة بأسلحة غير تقليدية. ويقول يونغ «هم أقوى منا عسكرياً بكثير. نحن لا نصمد أمام هجومهم وحدنا، فهم يمتلكون صواريخ بعيدة المدى وقنابل نووية». ويرفض الضابط يونغ وصف المناورات المشتركة الدورية مع الولايات المتحدة، بـ«الاستفزازية»، مصرّاً على أنّ التعاون العسكري مع واشنطن ضرورة قوميّة.
في منطقة بانمونجوم الأمنية يكتشف الزائر مشهداً مختلفاً عن غيره. هنا تنقسم الحدود الى ثلاثة أقسام؛ القسم الأول بطول 5 الى 10 كيلومترات، فيه الجيش الكوري الجنوبي، ومثله على الجانب الشمالي، وفي الوسط منطقة معزولة السلاح يشغلها جنود غير مسلحين من كوريا الجنوبية وست عشرة دولة أخرى، بينها الولايات المتحدة وفرنسا (700 عنصر). يحتاج زائر هذه المنطقة إلى تصريح خاص من دائرة الهجرة.
نقطع جسر تونغيل «الوحدة» بعد شرح مُفصّل من أحد الضباط التابعين للقيادة الأمنية المشتركة. ننتقل في حافلة أخرى تابعة للقوة المشتركة بمرافقة جندي كوري يُتقن العربية باللهجة السعودية، يقول «والدي يعمل في الدمام بشرق المملكة، وهناك ولدت وتعلمت والآن أخدم بلدي».
يبدو كل شيء مختلفاً، هنا منطقة تشبه محراب الصلاة، تبدأ الزيارة بمزيد من التعليمات والاحتياطات الأمنية وتتواصل بصمت مُطبق وفق نظام مرصوص. عناصر كوريون جنوبيون وآخرون شماليون كلهم من دون سلاح في الغرفة نفسها التي تشطرها الحدود نصفين. ثلاث غرف زرقاء طويلة في كل منها طاولات وكراس عديدة، بينها واحدة أساسية يقسمها «الخط الأزرق». في أوقات التفاوض بين أعضاء لجنة التنسيق المشتركة يجلس الشماليون من جهة منطقتهم، ومن الجهة الجنوبية مفاوضون جنوبيون، بحضور وسطاء دوليين من سويسرا والسويد، ينقلون الأفكار بين الجانبين رغم أن لغة المفاوضين واحدة. طبعاً أثناء هذه الزيارة لم يكن هناك كوريون شماليون، فالمراسم المُتفق عليها بين الجانبين تقضي بانسحاب العناصر الشمالية من الغرفة الى مبنى يبعد أمتاراً قليلة. وفق هذا الاتفاق يحصل الشيء نفسه للجهة الشمالية، حيث ينسحب الجنوبيون من الغرفة حين يستقبل الشماليون وفداً زائراً. أما العناصر الذين يقفون على الجانبين، فهم ملتزمون بدقّة في حال التأهب وانضباط شبيه بوضع حراس قصر بكنغهام الملكي البريطاني. جمود يتحلّى به العنصر على مدار 3 ساعات من أي دون حركة، واضعاً النظارة الشمسية «حتى لا يظهر له جفن يرفّ خلال وقت المناوبة»، حسبما يقول المرشد.
ثمة نقاط عديدة على الحدود، منها إدارية ترشد الزوار وأخرى سياحية، حيث المتحف الذي يتضمّن العديد من المعالم والأشياء المتعلقة بالحرب والمرصد الذي يمكن السائح أن ينظر بواسطته الى مناطق مواجهة من خلال مناظير تعمل بالعملة المعدنية. كذلك هناك متجر يبيع تذكارات من الشمال والجنوب. ولعل أكثر ما هو مثير للاهتمام الأنفاق التي حفرها شماليون هربوا الى الجنوب.
لقد دفع الكوريون ثمن الحرب الباردة غالياً، فقد أدى تقسيم البلاد الى ظهور شطر يتبع للمعسكر الاشتراكي وآخر يتبع للمعسكر الغربي. انقسام سبّب حرباً طاحنة بين عامي 1950 و1953، حرباً بدأت بصراعات فكرية بين نظرتين مختلفتين الى الدين والحياة والسياسة والاقتصاد، وانتهت بانقسام عميق لا يزال يعانيه الكوريون حتى الآن، رغم تطورهم التكنولوجي والصناعي (شمالاً تطور على مستوى الصناعة الحربية، وجنوباً على المستوى التكنولوجي والسلع الاستهلاكية).
حرب الكوريتين كانت في المنظور العسكري غير متكافئة، إذ ساهمت 16 دولة، في مقدمتها الولايات المتحدة، الى جانب الكوريين الجنوبيين، فيما وقفت روسيا والصين فقط الى جانب كوريا الشمالية.
هنا على الحدود التي يبلغ طولها 250 كيلومتراً تقريباً، يختصر المشهد تاريخاً طويلاً من النزاع رغم الهدنة التي أعقبت اتفاقية وقف النار في 27 حزيران عام 1953.
وللتداخل بين شطري شبه الجزيرة الكورية قصة أخرى تجدها في مصنع كيه سونغ، هذا المصنع أنشأته كوريا الجنوبية داخل المنطقة الشمالية بالاتفاق والتنسيق مع سلطات بيونغ يانغ من أجل تعزيز الحركة الاقتصادية هناك في بادرة حسن نية. في هذا المصنع يعمل نحو 39 ألف كوري شمالي بإدارة كوريين جنوبيين يعبرون كل يوم الحدود بتصريح خاص. بلغ حجم إنتاج هذا المصنع في عام 2008، نحو 132.56 مليون دولار، حسبما ذكرت وزارة الوحدة في سيول بتقريرها السنوي.
كانت الحافلة تشقّ طريقها بهدوء بالغ وسط مزارع الأرز، حيث لا تمكن رؤية مدنيين إلا ما ندر، فالمنطقة ليست فقط أمنية بل زراعية أيضاً، لكن لا وجود سوى لقرية واحدة من الجانب الجنوبي وأخرى على الجانب الشمالي «وهمية». يوضح الضابط المُرافق أن «قرية «كيجونجونغ» يتيمة في تلك المنطقة الساخنة. ويعمل أهلها البالغ عددهم 212 مواطناً بالزراعة»، أمّا على الطرف الشمالي فيبرّر المسؤول العسكري وصف القرية التي يمكن رؤيتها بالمنظار بأنها «وهمية» ليوحوا بوجود مدنيين. (الشماليون) يخشون وضع سكان في تلك المنطقة حتى لا يهربوا نحو الجنوب. التأم شمل 3613 شخصاً في عام 2007، حسب تقرير لوزارة الوحدة.
وللهروب قصص مدوّنة على جدران المتحف الحدودي الذي أقيم فوق نفق كان قد حفره مواطنون شماليون، هذا النفق الذي اكتُشف في مدينة غورانغبو منذ عام 1974، وهو بطول 8 كيلومترات، لم يكن نهاية المطاف، فقد اكتُشفت ثلاثة أنفاق أخرى بين عامي 1975 و1990، أطولها 16 كيلومتراً.
لا يمكن الحديث عن طرف مُستفِزّ وآخر مستَفَز في قضية الكوريتين التي شهدت تطورات ساخنة خلال عام 2010، فالقصف الشمالي لجزيرة «يونبيونغ» الجنوبية ما هو إلّا حركة في سياق لعبة شدّ ورخي بين الطرفين، ولا سيما أمام التحركات العسكرية الفاضحة للبحرية الأميركية في المنطقة. لعبة من شأنها تحسين شروط كل طرف على حدة تمهيداً لتسوية محتملة أو لحرب حاسمة.
فالجنوبيون دائماً يظهرون بمظهر الضحية التي تعرضت للقصف من الشمال من دون أي سبب، فيما يتوجس الشمال خيفة من استفزازات جنوبية أميركية مشتركة، على شكل مناورات متواصلة في البحر الغربي (الأصفر). استفزازات وجدت طريقها نحو المنطقة في ظل مناخات توريث زعامة القلعة الشيوعية العصية من كيم يونغ إيل إلى نجله الشاب كيم يونغ أون.
أمّا المراقبون فيتذبذبون بين موقفين: موقف ينظر إلى القضية بعيون أميركية فيتّهم النظام الشيوعي بإثارة الوضع الأمني لتغطية أجواء التوريث الجارية في البلاد، وفي الوقت نفسه ابتزاز الغرب لتقديم مساعدات إنسانية لبيونغ يانغ. وموقف آخر يرى أن الأميركيين يحاولون هزّ العصا بوجه كوريا الشمالية، معتقدين بناءً على معلومات من دوائر القرار في سيول، بأن الوريث الجديد للسلطة الشمالية غير قابل للاستمرار ولا يتمتع بكاريزما القيادة.
في أي حال، الدعاية الحربية بين الجانبين وصلت الى مرحلة تصعيدية غير مسبوقة، منذ تجربة بيونغ يانغ النووية في عام 2008. فعلى الطرف الجنوبي تقول سيول، إن التهديد الفوري الذي يمثله الشمال تزايد بعدما نشرت بيونغ يانغ 20 ألف جندي إضافي من قوات الحرب الخاصة بالقرب من الحدود (عدد الجنود الإجمالي في الشمال 1,19 مليون جندي)، وبعدما تجاوز عدد الدبابات الـ4000 دبابة. أكثر من ذلك، عادت هذه العاصمة ذات الوجه الغربي، الى استخدام عبارة «العدو» لوصف كوريا الشمالية بعدما كانت قد أسقطتها عام 2000.
ويجمع الجنوبيون على الخوف من حرب محتملة مع الشماليين، لكنهم يأملون في المقابل أن تتوصل جهود السلام من خلال اللجنة السداسية واللقاءات المشتركة الحدودية الى سلام، يجمع أبناء العائلة الواحدة في بلد واحد، خصوصاً أن جنوبيين كثيرين لا يرتاحون الى العلاقة مع الولايات المتحدة.
---
خطوات تطبيعيّة
رغم التوترات الأمنية بين الجانبين التي تظهر الى العلن بين وقت وآخر، قطع البلدان شوطاً كبيراً في التعاون الثنائي، خصوصاً بعد صدور البيان المشترك بين سيول وبيونغ يانغ في 4 تموز عام 1972، الذي أعلن بدء حوار وتبادلات محدودة، شملت الصليب الأحمر واجتماعات لجان التنسيق المشتركة في الغرف الزرقاء. لعل أول غيث الإنجازات في العلاقات المشتركة كان في عام 1985، حين عُقد أول لقاء لأسر كورية مشتتة. ثم بدأت رحلات سياحية كورية جنوبية في مجموعات الى جبل كومكانغ في الشمال، حيث القمم العالية. وفي عام 2000 كان اللقاء التاريخي الأول من نوعه بين زعيم كوريا الشمالية، كيم يونغ إيل ورئيس كوريا الجنوبية كيم دي جونغ. لقاء دشن العديد من الخطوات التعاونية الأخرى مثل توحيد فرق الكوريتين الرياضية خلال مراسم افتتاح اولمبياد سيدني عام 2000 وبدء العمل بمجمع كي سونغ الصناعي. وبعد عام 2007. بدأت رحلات سياحية الى مدينة كيه سونغ، عاصمة مملكة كوريو التاريخية.
كوريا الجنوبيّة: معجزة على نهر الهان
أمام قصر «غيونغبوك» في سيول (الأخبار)
معالم كثيرة تنتشر في «جمهوريّة الهان الكبيرة»، بدءاً من ذاكرة الحروب التي تتوزّع على خريطة كوريا، مروراً بحكايات التاريخ التي تروي قصص الممالك العديدة، وصولاً الى المواقع الصناعية التي أهّلت البلد ليكون نمراً آسيوياً بامتياز، يسير مختالاً وسط طبيعة خضراء جميلة تحيطها البحار من كل جانب، وتنساب الأنهار على امتداد مساحاتها الشاسعة
يحتار الزائر لكوريا الجنوبية من أين يبدأ في وصف ما شاهده من معالم وأماكن وأشياء جميلة، هل ينطلق من الطبيعة الغنّاء، بخضرتها ومياهها وخصوبة أرضها، أم يحكي عن التقدّم العلمي والتكنولوجي والنظام الذي يسير كالساعة؟
ثمة نواحٍ كثيرة تتميّز بها جمهورية كوريا الجنوبية التي تعيش حالة خصومة مع نصفها الآخر في الشمال بسبب الانشقاق، الذي حدث بعد الحرب العالمية الثانية، وسبّب حرباً ضارية بين الكوريتين.
لكن حالة الحرب التي لا تزال هاجس المواطنين في شبه الجزيرة الكورية، لم تؤخر الكوريين عن اقتحام المستقبل بصناعات رائدة أهّلت البلد ليكون عضواً في مجموعة الدول العشرين الصناعية الكبرى، فيما نشط الشطر الشمالي على صعيد الصناعات العسكرية والنووية.
قد يوحي الحديث عن أهمية كوريا الصناعية بالإشارة الى مصانع السيارات والأدوات الكهربائية التي أصبحت تنافس البضائع الصينية والتايوانية وغيرها من بضائع الدول التي تسمى نموراً آسيوية، بيد أن هذا البلد الذي خرج من حرب السنوات الثلاث (1950- 1953) مُنهكاً لم يقصّر في اقتحام المستقبل بجهود أبنائه الذين يشتهرون بالكد والنشاط.
لقد حقق الشعب الكوري «معجزة» ظهرت بعد ثلاثين عاماً من انتهاء الحرب، حسبما يصف السفير اللبناني لدى سيول، عصام مصطفى.
ويشير الكوريون الى بلدهم باسم «جمهورية الهان الكبيرة»، حسبما يعني اسمها التقليدي. لذلك يطلقون على هذه النهضة اسم «معجزة على الهان». والهان أيضاً نهر يمر قرب العاصمة سيول وهو بطول 481 كيلومتراً.
في بيته بإحدى ضواحي العاصمة سيول، حيث استضاف الوفد اللبناني الزائر لكوريا في إطار «برنامج عبر البحار»، وعلى مائدة غداء عامرة بالطعام اللبناني، تحدث السفير مصطفى عن نهضة اقتصادية وتكنولوجية كبيرة، «لأنه شعب عملي لا تتعدّى أيام إجازاته في السنة سوى 10 أيام، فيما عدا العطلة الأسبوعية طبعاً. ومنهم من يعمل في دوامين نهاري وليلي. والتلميذ الكوري لا يكتفي بما يتعلمه في المدرسة، بل ينهل من معين الفنون والرياضة وخصوصاً فنون «التيكواندو» والدروس الخصوصية في مجالات علمية».
مصطفى، الذي بدا وزوجته ماجدة خبيرين في الشؤون الكورية، رغم عدم مرور أكثر من سنتين على وجودهما في هذا البلد، تحدّث عن ثلاثة أشياء تهمّ الشعب هناك، اصطلح على تسميتها «3 G»، وهي (غارليك وجنسينغ وغينغر) أي الثوم وشاي الجنسينغ والزنجبيل. هذه الأشياء الثلاثة لا يمكن المائدة الكورية في أي وقت أن تخلو منها.
ويحكي السفير عن جزيرة اسمها «جي جو». شعارها «لا شحادين ولا سارقين» بمعنى أن الناس هناك ينامون بأمان وبيوتهم مشرعة الأبواب. لكن الرقم 4 هو نذير شؤم بالنسبة الى معظم السكان.
ورغم أن كوريا الجنوبية تكاد تخلو من أي لبناني، باستثناء السفير وعائلته، إلا أن الحكومة تحاول إقامة علاقات ثقافية واقتصادية مع لبنان والدول العربية قاطبة. لهذا أُنشئت جمعية كوريا والعرب منذ سنتين تقريباً، وتشكّل مجلس إدارتها من ممثلين عن 14 سفارة عربية ونحو 40 شركة كبيرة. وتضم كلاً من الأردن والمغرب والجزائر وتونس وليبيا والسودان ومصر والسعودية وقطر وعمان والإمارات والعراق ولبنان. ومهمة هذه الجمعية «فتح العالمين بعضهما على بعض ثقافياً»، حسبما يرى السفير.
أما أبرز النشاطات الثقافية التي نتجت من هذا المولود، فكان مهرجان شاركت فيه فرقة موسيقية لبنانية فولكلورية، فيما زارت لبنان فرق موسيقية نسائية كورية شعبية، وأحيت حفلتها في قصر الأونيسكو ببيروت.
في العقود الماضية، كان تركيز بعض الدول العربية ذات المنحى الاشتراكي على توطيد علاقاتها مع كوريا الشمالية التي تقف الى جانب قضايا العرب أكثر من الجنوبية التي تختار قراراتها السياسية وفق إملاءات الولايات المتحدة. وحسب ما يرى السفير اللبناني، فإن نحو 20 في المئة لا يحبّون الأميركيين، مشيراً الى احتجاجات دامت لمدة 3 أشهر ضد معاهدة FTA للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة، لأنهم يرون أنها مجحفة بحق بلادهم، مع التذكير بأن سيول عقدت مثل هذه الاتفاقية أيضاً مع 17 دولة أخرى.
وفي ما يتعلق بالسيارات، يلاحظ المرء أن العديد من أنواع سيارات «هيونداي» تختلف في طرازها عن السيارات التي يستوردها لبنان، فرغم الصورة النمطية عن هشاشة هذا النوع من السيارات، فإن في كوريا أنواعاً أخرى أكثر رفاهية ومتانة، إضافة الى سيارات أخرى باهظة الثمن وهي صناعة محلية أيضاً من نوع «EGOS».
أثناء زيارتنا الى أسان في وسط البلاد جنوبي سيول، كانت لنا جولة على مصنع «هيونداي»، حيث يعمل 90 في المئة من الموظفين من كوريا والباقي أجانب. في كل حال، المصنع يعتمد على الآلات أكثر من اعتماده على البشر.
يمكن رؤية صناعة السيارة من البدء حتى الانتهاء في هذا المصنع الذي يشكل مع مصنع آخر في منطقة أوسلان في الجنوب أكبر مصادر إنتاج السيارات في البلاد، حيث يعمل 33000 موظف في كلا المصنعين.
تتحدث مسؤولة قسم الشرق الأوسط في الشركة، مين غيونغ كيم، عن علاقة جيدة مع العالم العربي عموماً، ولبنان خصوصاً. وتشير الى أن عام 2010 شهد استيراد 220 ألف سيارة الى الشرق الأوسط، منها 5000 سيارة الى لبنان بمعدل وسطي 15000 دولار للسيارة.
وتشير الى أن الخطة الجديدة تقتضي تصدير 300,000 سيارة الى الشرق الأوسط في العام الجاري.
تتوسع الشركة في إنشاء مصانع محلية وخطوط إنتاج في أنحاء العالم، مصانع في الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند وجمهورية التشيك.
في أي حال، وبالنسبة إلى الشركات الكورية فإنها تنشط بقوة في الأسواق العربية، وخصوصاً لدى دول الخليج وأكثرها الإمارات العربية المتحدة. لكن في المُجمل، فإن حجم التبادل التجاري لا يتعدى 20 إلى 30 مليون دولار مع العرب.
كوريا التي وصلت صادراتها إلى ما يقارب 422 مليار دولار عام 2008، كانت تحتل الرقم 5 من بين الدول المصدّرة. ولعل أهم ما توصلت إليه هو صناعة السفن التي كانت في السابق محصورة باليابان وبريطانيا، لكن الكوريين الجنوبيين أصبحوا اليوم في طليعة صنّاع السفن في العالم. تظهر أهمية هذا البلد من حيث التنظيم المدني الذي يفصل بين مناطق صناعية وزراعية وأخرى سكنية، ففي الطريق الى مقاطعة انتشجون في الجنوب والتي تتمتع بسلطة محلية (212 كيلومتراً من سيول) كان القطار السريع ينساب وسط مناطق زراعية تعتمد أساليب علمية حديثة. وبسبب البرد القارس الذي تصل معه درجة الحرارة في ذروتها الى عشرين تحت الصفر، ثمة الكثير من البيوت البلاستيكية التي تحفظ المزروعات. ولعل أبرز المزروعات الأرز والذرة والقمح والشعير، وهناك جذور الجنسينغ المنشّطة، أما على سواحل البحر الأصفر فتنتشر زراعة الزيتون والعنب والدراق وغيرها.
على المستوى الثقافي، تتميز كوريا بالعديد من المعالم التاريخية والأثرية، التي تدخل في سجل التراث العالمي مثل، معبد هينسا جانغيونغ بانجون، لحفظ ألواح تريبتاكا كوريانا، وضريح جونغمو وكهف سوكورام ومعبد بولكوكسا، إضافة الى مجمع قصر تشانغ ديكونغ وحصن مواسونغ. وثمة معلم سياحي آخر هو مدينة كيونغ جو ذات المعالم التاريخية، إضافة الى جزيرة جيجو البركانية.
وللحديث عن المياه نكهة خاصة، ففي رحلة شتائية باردة كان لا بد من رحلة في نهر الهان في باخرة مخرت كتل الجليد. وهناك الكثير من الأنهار مثل نهر أمنون كانغ الذي يبلغ طوله 521 كيلومتراً ونهر ناكدونغ كانغ (521 كيلومتراً أيضاً).
المرأة الكورية حاضرة في المجتمع والاقتصاد والسياسة والإعلام. من هؤلاء النساء لي سوه يون، التي أصبحت أول رائدة فضاء كورية. النساء يتميزن بنعومة فائقة. فرغم سنوات الحرب التي تحفر آثارها على وجوه النساء المسنّات، تتميز الفتيات بتألق لافت وجاذبية ممزوجة برهافة حس لا تخلو من الخجل. يذكر السفير اللبناني، عصام مصطفى، أن الكوريات أثناء احتلال اليابان لبلدهنّ (1910-1945) كنّ أدوات تسلية للجنود اليابانيين الذين أجبروهنّ على ممارسة البغاء معهم. لذلك أطلق اليابانيون على نساء كوريا اسم «comfort women».
وقد صودف أثناء هذه الزيارة حلول السنة الكورية القمرية، حيث يستمر تعطيل البلاد لمدة سبعة أيام، يحتفل الكوريون خلالها بسماع الموسيقى القومية «سوجي تشون»، فيما يحتفل الشباب على طريقتهم المصبوغة بالنمط الغربي. فالكوريون يتعلقون بالموسيقى منذ صغرهم. هناك الكثير من المناسبات في «جمهورية الهان الكبيرة» مثل يوم الزيّ الوطني ويوم الطيور ويوم اللغة ويوم الفراشات ويوم أسطورة الوردة.
ورغم أجواء الفرح والابتسامة التي يتميز بها معظم من التقيناهم من الشعب هناك، تبقى ذاكرة الحرب حاضرة وتخليد القتلى جزء من المشهد التراجيدي الذي لا بد لكل زائر أن يتعرّف عليه. هنا نعود الى «البروباغندا» التي تنشط بقوة من أجل تشويه نظام الشمال الشيوعي، من دون أن تعترف بخطأ التبعية الجنوبية لدول الغرب. في هذا السياق، كانت الرحلة الى البحر الأصفر أو بحر الغرب، حيث القواعد العسكرية المواجهة مع سواحل الصين وكوريا الشمالية.
كانت مناسبة هذه الزيارة مشاهدة السفينة التي قتل فيها 46 عسكرياً، جراء تعرّضها لطوربيد فشقّها الى نصفين في آذار من العام الماضي. الدعاية واضحة في محاولة اتهام بلا مبرر للشماليين، فقد شرح الضابط المرافق كيفية إصابتها من تحت المياه، مشيراً الى نموذج مشابه من الطوربيد المُستخدم في العملية الى أنه من صنع كوري شمالي. لكنه يضيف: لا دليل على تورّط بيونغ يانغ في هذا الهجوم.
----
أسطورة أبناء «النمرة»
تروي الأسطورة عن تاريخ تأسيس كوريا أن ملكاً نزل من السماء والتقى أنثى نمر وجملاً فطلبا منه تحويلهما الى بشريين، وكانت إجابته لهما «إذا صمتما شهراً كاملاً وأفطرتما على 20 حبة من الثوم تصبحان بشراً». نجحت أنثى النمر في الاختبار وفشل الجمل. وهكذا أصبحت سلالة هذه «النمرة» هي شعب كوريا. ولذلك يحب الشعب الكوري الثوم ويكثرون منه في الطعام. هي «جمهورية الهان الكبيرة» التي تقع في موقع استراتيجي عند التقاطع في منطقة شمال شرق آسيا، بين اليابان والشرق الأقصى من روسيا والصين. عاصمتها سيول (10 ملايين نسمة)، عملتها الوون (1$= 1.257 وون) ولغتها الكورية بحروف (هانغول). أهم المدن: بوسان (3.5 ملايين نسمة)، وانتشجون (2.6 مليون) وتيجو (2.5 مليون)، إضافة الى ديجون وكوانغو وأولسان). أما عدد السكان فيبلغ قرابة 50 مليوناً ، وما يزيد على المليون من الأجانب المقيمين. ورغم عدم استخدامها سوى في المناسبات، لا تزال الملابس التقليدية «هانبوك» موضع فخر للكوريين.
سيول عاصمة تقنيّة بلا شرطة سير
داخل استديو التلفزيون الكوري في سيول (الأخبار)
لا يمكن زيارة كوريا الجنوبيّة من دون المرور على معالمها التكنولوجيّة وحضارتها الرقميّة التي تسابق العصر؛ إذ إن تفوّق الشعب الكوري في مجال الإلكترونيّات والصناعات التقنية يجعله في مصاف الشعوب المُتقدّمة، من دون تجاهل أهمية هذه الدولة التي أصبحت تنافس زميلاتها من النمور الآسيوية في العديد من المجالات الأخرى
لم يكن وصف الشعب الكوري بالشعب «الآلي» مجانباً للصواب؛ إذ تجلّت موهبة هذا الشعب من خلال صناعاته المُتميزة على أكثر من صعيد، ولا سيما الإلكترونيات، من كمبيوترات وأجهزة اتصال وتلفزيونات ذكية تجاوزت في تطورها أهمية تلك الأجهزة الثلاثية الأبعاد.
موهبة كوريا، التي شهدت معجزة القرن العشرين رغم خروجها من حروب أنهكت الحجر والبشر والشجر، تتجلّى في نظام الحياة الفائق الدقّة. تنظيم يبدأ من الالتزام بالمواعيد اليوميّة، وصولاً إلى «سيستام» المدينة القائم على مواصلات عصريّة لا يحتاج معها الشعب إلى الكثير من رجال الشرطة لتنظيم السير، ولا ترتبك أمور الموظفين بسبب خلل في مواعيد وصول القطارات أو الحافلات.
بدا هذا «المكتوب» واضحاً من عنوانه، حين وزّع المنظّمون من القوات الكورية العاملة في جنوب لبنان برنامج رحلة «عبر البحار» بالتفاصيل المُملّة على الوفد اللبناني المؤلف من 16 فرداً. المفاجأة كانت في تطبيق هذا البرنامج بحذافيره، إلا في ما عدا الأمور الخارجة عن إرادة المنظمين. كان يمكن القول إن المنظّمين من العسكر، وبالتالي فالانضباط من شيم هذه الفئة من الناس، لكن متابعة الحياة اليومية للكوريّين، أثناء الإقامة لعشرة أيام في سيول، مكّنت الوفد الزائر من التعرّف عن كثب إلى ذهنية علمية منظّمة تشبه نظيرتها اليابانية، التي كانت رمزاً لاستعمار كوريا في حقبات عديدة من تاريخ شبه الجزيرة الآسيوية.
طبعاً لا يمكن الحديث عن جمهوريّة فاضلة بهذا المعنى، ولا يمكن القول إن الشعب الكوري برمّته يتمتع بذكاء خارق يجعله من فئات العباقرة؛ ففي جولة سريعة على شوارع سيول وأحيائها، قد تجد السارق والكاذب والمُنافق، ومطاعم لا تتوافر فيها أدنى شروط الصحة. هو مثل أي بلد في العالم، قد تقع على أحياء شعبية بيوتها قائمة على نحو عشوائي وطرقاتها من دون إسفلت. أو قد تصادفك مشاهد من القمامة المكوّمة على قارعة الطريق. كل هذا يمكن أن تشاهده في العاصمة الكوريّة، لكن ما لا يمكن رؤيته في البلاد العربيّة، هو أن الشوارع لا تشهد عدداً كبيراً من شرطة تنظيم السير، بسبب وجود آلات التصوير التي تُلاحق المخالفات حتى في الزواريب الصغيرة.
يمكن التعرّف إلى هذه التقنية من خلال زيارة لمركز تنظيم السير وسط سيول. ويستطيع المراقب هناك معاينة تحرير المخالفات في حركة السير عن كثب؛ قاعة كبيرة مزودة بنحو 50 شاشة كمبيوتر مكتبية، إضافة إلى شاشات حائط ضخمة مقسّمة إلى مشاهد عدة، يمكن من خلالها نقل ما يجري في طرقات سيول وشوارعها بالتفصيل. عشرات الموظفين المدنيين يعملون في كل نوبة من نوبات العمل الثلاث، التي تستمر 24 ساعة في اليوم، يتابعون كل مخالفة من خلال الكاميرات ويحرّرونها بحق صاحب السيارة عبر تقريب المسافة نحو رقم السيارة وتسجيلها وإرسالها إلى الدائرة المُختصّة، أو إلى هاتف صاحب العلاقة ليدفعها.
وينقسم الموظفون إلى فرق، إحداها تتابع حركة سير السيارات السياحية، وأخرى تختص بالحافلات، في عاصمة يتحرك فيها يومياً نحو 8.8 ملايين نسمة من خلال وسائل المواصلات المتوافرة، من سيارات أجرة وحافلات وقطارات أنفاق، مجهّزة بأحدث التقنيات. ويزود المركز السيارات بخدمة «GPS»، وهي إحدى الوسائل الإرشادية المُهمة للسائقين.
ولعل أبرز المعالم الحديثة هو المدينة الإعلامية الرقمية «DMC» في ساحة ناريكو (وسط سيول)، حيث ينتصب مبنى شاهق شبيه بهوائيات المحطات الإذاعية بطول640 متراً، بما فيه البرج وست طوابق أرضية و133 طابقاً فوق الأرض. في هذا المجمع الضخم، الذي يمتد على مساحة 724.675 متراً مربعاً، العديد من الأقسام، منها الجناح الرقمي الذي يضم معرضاً لتقنيات الإنترنت ووسائل تكنولوجية حديثة. وفي مركز المحتويات الثقافية مكتبة إعلامية ومتحف للأفلام الكورية والأشرطة السينمائية من الشرق والغرب «سينماتيك».
كذلك يمكن في المدينة الرقمية التواصل مع عوالم الثقافة في سيول والعالم. وهناك العديد من الغرف والأجنحة المزوّدة بكاميرات تصوير ومشاهد جميلة تتحرك بالتقنيات الرقمية وأماكن لتسلية الأطفال، إضافة إلى عروض شرائط بتقنية الأبعاد الثلاثة.
أما في مبنى نظام البث الكوري «KBS» أو التلفزيون الكوري، فقد تحوّل المكان إلى متحف في جزء منه، وفي جزء آخر يمكن الزائر أن يختبر طلاقته في تقديم نشرة أخبار أو برنامج عبر استوديو تجريبي مزوّد بشاشات ومعدّ لهذه الغاية. وفي جولة على هذا المبنى يمكن اكتشاف المدى التقني المتقدم والتجهيز الرائع في مستويات العمل التلفزيوني، إضافة إلى أجنحة تعرض التجهيزات والملابس التي كانت تُستخدم في أفلام ومسلسلات سابقة.
لعل اختصار مشهد العاصمة الكورية، يكون من خلال زيارة برج سيول القائم على تلة يمكن من خلالها رؤية العاصمة بجوانبها الأربعة. هو أحد أهم مناطق الجذب السياحية في كوريا. بدأ بناء هذا البرج في عام 1969، وافتتح للجمهور في عام 1980، وكان يُعرف باسم برج نامسان.
يبلغ طوله 479 متراً عن مستوى البحر، و236.7 متراً من القاعدة. يمثّل هذا البرج أحد معالم كوريا الحضارية وإنجازات مبدعيها الفنية، ويتضمن مطعماً ومقهى وصالة مزودة بمناظير تعمل بالعملة المعدنية واستوديو للتصوير مع خلفية صورة البرج، وفي الأسفل وسائل ترفيه وتسلية وأسوار عُلّقت عليها عشرات آلاف الأقفال، التي تجمع أسماء العشاق.
لا مجال للحديث عن الصناعات الإلكترونية الكورية التي غزت الأسواق العالمية، من أجهزة كمبيوتر وهواتف نقالة وتلفزيونات. لقد تطورت أجهزة الإلكترونيات الحديثة إلى مستوى أصبحت معه سيول من العواصم التي اقتحمت عصر التكنولوجيا. ولعل ما كشفت الحكومة النقاب عنه خلال الاجتماع التنسيقي الاقتصادي الأسبوعي الذي عقدته في 6 نيسان الماضي، يبيّن حجم الاستثمارات في المجال التقني.
لقد أكدت الحكومة الكورية خططها لاستثمار 54,3 مليار وون (49,8 مليون دولار) هذا العام، لمساعدة الشركات المحلية على المحافظة على تفوقها في سوق التلفزيونات الذكية على مستوى العالم، حسبما ذكر موقع «كوريا» السياحي على الإنترنت.
وستعمل وزارة الاقتصاد المعرفي وهيئة الاتصالات الكورية ووزارة الثقافة والرياضة والسياحة معاً لبناء محتويات تناسب التلفزيونات الذكية بهدف اجتذاب اهتمام العملاء لإقامة بنية أساسية ناجحة على شبكة الإنترنت. وستركز الحكومة على تطوير برامج جديدة للتلفزيونات الذكية وتكنولوجيات للشبكات مثل الواجهات الخاصة بالمستخدمين.
وتعمل شركتا «سامسونغ» و«إل.جي» معاً لتقوية تكنولوجياتهما الخاصة بالتلفزيونات الذكية التي تنتجانها، وذلك لتوسيع نطاق أسواق التلفزيونات الذكية أمامهما. وهذا النظام السحري للتحكم عن بعد سهّل الاستخدام، بفضل وجود خمسة أزرار ونقطة للإطلاق والتحكم.
وفي مجال الحفاظ على البيئة، تحاول سيول تحقيق الشروط البيئية التي تتناسب مع احترام اتفاقيات المناخ العالمية، ولهذه الغاية وافقت الحكومة الكورية على تدعيم ألف شركة ومؤسسة متخصصة في الصناعات الخضراء في مجال تصنيع المكونات والأجزاء قبل عام 2013. وأعلنت إدارة الشركات الصغيرة والمتوسطة، وهي الوكالة الحكومية الكورية على المستوى الوزاري التي تدعم هذه الشركات، في خططها مساعدة الشركات الخضراء.
وفي ما يتعلق بالطاقة المُتجددة، ينتج نظام الطاقة الضوئية المتكامل الجديد في المباني المعروف اختصاراً باسم «BIPV» الطاقة باستخدام مواد بناء خاصة تؤدي وظيفة تجميع الطاقة الشمسية.
وتعمل الحكومة الكورية والشركات المحلية معاً لتطوير تكنولوجيا لتوليد الطاقة من طريق استخدام الطاقة المتجددة لتحل محل الأنواع التقليدية من الوقود الحفري، حسبما يوضح موقع «كوريا.نت».
وفي المنازل، يمكن نظام «BIPV» توفير المساحات وتكاليف التركيب باعتبار أنه يستخدم الجدران الخارجية والأسطح والنوافذ والمزارع في توليد الطاقة الكهربائية اللازمة للمبنى.
وأخيراً زُوِّد عدد من المباني الجديدة بأنظمة «BIPV»، وشهد التحرك نحو استخدام هذا النظام ازدياداً متسارعاً، وبخاصة في أوروبا، باعتبار أن الطاقة الشمسية أمر شائع فيها، وكوريا هي الأخرى كذلك.
وبدأت العديد من المعاهد والجامعات في تنفيذ الأبحاث المرتبطة بتكنولوجيا «BIPV» منذ عام 2001 ، وذلك عندما بدأ المعهد الكوري لأبحاث الطاقة للمرة الأولى في تنفيذ مشروعاته الخاصة بتكنولوجيا BIPV.
----
الحياة السياسية
شُرِّع أول دستور لكوريا الجنوبية على الطراز الغربي في السابع من تموز عام 1948 وانتخبت الجمعية الوطنية التأسيسية لي سونغ مان، أول رئيس للجمهورية لمدة أربع سنوات.
وفي تعديل الدستور للمرة التاسعة عام 1987 الذي جرى بالاتفاق بين الأحزاب الحاكمة والمعارضة لأول مرة في كوريا، أُقرّ نظام الانتخاب المباشر لرئيس الجمهورية (فترة واحدة لمدة خمس سنوات)، وباتت تتبع النظام الجمهوري، والرئيس الحالي هو لي ميونغ باك، الذي تسلم مقاليد الحكم في بداية عام 2008، وهو من حزب الوطن الكبير. وتتكون الحكومة من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء إلى جانب 18 وزارة و16 دائرة. وفي 1 كانون الثاني 2007 أصبح السياسي الكوري بان كي مون، أميناً عاماً للأمم المتحدة.