هو آخر حدّاد عربي، ليس في سوق الخان القديم في بعلبك فقط، بل على امتداد قرى بعلبك ـــ الهرمل. يحاول المحافظة على مهنته في محاولة منه للحفاظ على «تراث بعلبكي جميل»، يساعده في ذلك المزارعون الذين لا يجدون ملجأً لإصلاح معداتهم غيره
«أنا كل ما بقي من سوق الخان في بعلبك»، يقول رعد في إشارة منه إلى أن محله الذي لا يفصله عن معبد فينوس الأثري التابع لقلعة بعلبك سوى أمتار قليلة كان داخل سوق الخان. والأخير كان أحد أشهر الأسواق التركية في المدينة، إبان الحكم العثماني، وكان يحوي سوقاً تجارياً، عدداً من الفنادق وإسطبلات الخيول، بالإضافة إلى الحمّامات التركية العامة، «بس دولاب الزمن برم، وأتى على السوق بأكمله، ولم يبق من الماضي غير صور بالذاكرة. أما محالّ الحدادة العربية التي كانت منتشرة، فلم يبق منها سوى هذا المحل».
اشتهر الرجل بتصنيع المعدّات الزراعية على اختلافها، وقد جعلته سنوات الخبرة الطويلة محل ثقة الزبائن في البقاع، وخصوصاً أنه تعلّم «كار» الحدادة العربية عندما كان في الخامسة عشرة من العمر. يومها طلب منه والده ترك المدرسة وإتقان مهنة أو حرفة «بتطعمي خبز، شو مفكّر تعمل محامي؟ قال لي». تعلّم في محل «المعلّم بشارة زخور» في مدينة الشمس لمدة خمس سنوات وبرع خلالها. عمد بعدها إلى استئجار محله الصغير في سوق الخان في عام 1948، «بمئة ليرة»، وبدأ من حينها بتصنيع سائر المعدات الزراعية التي تحتاج إليها اليد العاملة الزراعية في أعمال الحراثة والحصاد والتشحيل.
لا ينكر رعد، وهو يجلس على كرسيّه داخل محله، أن الأسى والحزن يختلجان في صدره، عندما ينظر إلى حال مهنته التي باتت «تراثاً، بعدما راحت إيام الشغل». فالمهنة التي كان لها تاريخ تمكنت الحداثة من تبديدها والقضاء عليها، نتيجة هجمة الآلات (الحصّادة والشمّالة والدرّاسة...) وتنحية اليد العاملة الزراعية. يشير بعصاه الخشبية صوب سوق الخان ويقول: «كان المشهد مختلفاً، أراه إلى اليوم أمام عينيّ، أيام الشغل كنا نفتح، أنا وزملائي محالّنا من طلوع الضو حتى نلحّق على طلبات مزارعي المنطقة، وخصوصاً أيام الحصاد، فكنت أدق نحو 100 زبورة باليوم، وما كنا نسكّر إلا بساعات متأخرة من الليل». ورداً على سؤال عمّا تغير في المهنة والأسعار على مر السنوات الماضية، يجيب: «من جهة أسعار التصليحات لم تختلف كثيراً في السنوات القليلة الماضية، لكن ما اختلف هو التصنيع؛ فالحديد شهدت أسعاره ارتفاعاً بوتيرة سريعة، الأمر الذي فرض زيادة ضئيلة على أسعار بعض القطع»، لكنه يبدي قناعته بالربح القليل «لأنو الناس اللي عم تستعمل هالقطع مزارعين وحالتهم متل حالتنا».
المعلم عبد الله تعرض منذ سبع سنوات لحادث صدم من أحد الفانات في المنطقة، ما أدى إلى إصابته بكسور عديدة في أنحاء جسمه، لكن «إرادة رب العالمين أنقذتني وتمكنت من السير، حتى أعود إلى عائلتي ومحلي وصنعتي». يعتذر رعد عن متابعة الحديث بضع دقائق ريثما يساعد ابنه في «دق الحديد وهوي حامي»، فيمسك كلّ منهما بمطرقة حديدية، وينهالان بالضرب على قطعة الحديد التي بدت كالجمر، وليستغل من بعدها الحديث عن طريقة عمله التي تتطلب سواعد قوية، وعدداً قليلاً من المعدّات، حيث تبدأ الأمور بتجهيز الفرن المعد لصهر الحديد المراد تصنيعه أو إصلاحه، ثم ضربه بالمطرقة على السندان ليأخذ الشكل المطلوب، سواء كان «زبورة» أو فأس أو معول، ليسقيه من بعدها بالماء عدة مرات بغية «زيادة قوته وقساوته»، ومن ثم يوضَع في وعاء «الصفوة»، وهو عبارة عن صفوة الفحم الحجري بعد إشعاله، ويجري في النهاية ترطيبه بالماء «حتى يبقى مطاوعاً في العمل خلال استخدامه».
رعد منح خبرته الطويلة في الحدادة العربية لاثنين من أبنائه الستة عشر، يواظبان على مساعدته، فضلاً عن آخرين من أبنائه يقصدون المحل ويقدمون العون بعد قدومهم من وظائفهم، ليصنعوا معاً بجدٍّ ونشاط من دون ملل قطعاً جميلة متناسقة، من مواد أولية طبيعية بسيطة، لا تتعدى قطع الحديد، فتصقل بموهبة فطرية.
عبد الله رعد الذي يفاخر بصورته الموجودة في كتاب القراءة العربية للصف الرابع أساسي، التي التقطت له بهدف التعريف بمهنة الحدادة العربية، يرى أن الصنعة «ما زال حالها مقبولاً ومستورة والحمد الله»، رغم هجمة الحداثة والآلات المتطورة، واعتماد غالبية المزارعين عليها. ويوضح أن غياب المنافسة في المنطقة بأكملها من حدادين، بالإضافة إلى استمرار بعض المزارعين في التوجه إلى المحل من أقاصي البقاع الشمالي لإنجاز بعض القطع والمعدات أو تصليحها، يسمح للمهنة بالاستمرار، لكن «بطلوع الروح»؛ فهي بحسب رعد «ما عادت تطعم خبزاً، أو تفتح منزلاً، علماً بأنها أتاحت لي تكوين عائلة كبيرة وتعليمها». هو يرى أن منح أبنائه خبرة عمله في الحدادة العربية ليس سوى محاولة للحفاظ على حرفة قديمة بمثابة «تراث بعلبكي»، مضيفاً: «وحتى يتمكن أحفادي من التعرف إلى مهنة أجدادهم». يقول ذلك لاقتناعه بأن مستقبل حرفة الحدادة العربية يتجه مسرعاً صوب الزوال بحسب رأيه «نتيجة الإهمال الكبير من الدولة في المحافظة على المهن التراثية القديمة، وعدم إيجاد أسواق لها، أو حتى تشجيع الحرفيين والوقوف إلى جانبهم وتقديم يد العون والمساعدة لهم لإبقاء صنعتهم».
توشك مهنة «أبو علي» أن تزول هي الأخرى لتنضم إلى لائحة طويلة من المهن القديمة، لتفقد بعلبك ـــــ الهرمل وجهاً آخر من أوجه التراث الجميل، في زمن نبدو فيه أحوج إلى ماضينا وتراثه «لإنو اللي ما عندو ماضي، ما إلو مستقبل أبداً» يختم رعد.
--------------------------------------------------------------------------------
معدّات منذ 1948
ما زالت معدّات عبد الله رعد في محله الصغير هي نفسها منذ أن استأجر محله في عام 1948، ما خلا الجلخ الكهربائي. وقد واظب رعد طوال العقود الماضية على تصنيع القطع والمعدات الزراعية، بدءاً من الشاكوش والقدّوم، مروراً بالزبورة والبلطة والفرّاعة (الفأس)، وصولاً إلى المجرفة والمعول.
بخطى بطيئة أثقلتها سنون العمر، وبمساعدة عكاز خشبي صغير، لا يزال عبد الله رعد يقصد محله للحدادة العربية في سوق الخان في بعلبك صبيحة كل يوم. لم يشعر ابن الثلاثة والثمانين عاماً بعد بالملل من سندانه الكبير ومطرقته الحديدية، ولا حتى من لظى «كور» النار المخصّص لصَهر الحديد، فالرابط بينهما بات عبارة عن «حكاية عمر بأكمله» كما يقول «أبو علي»، الذي لم يترك محله قط؛ لأنه مصدر رزقه الوحيد. صحيح أن سخام الأيام والشحار الأسود، احتلا جدران وسقف المحل الذي لا تتعدى مساحته الأمتار الثلاثة، لكنه يمثل حالياً الملاذ الوحيد لعدد من مزارعي بعلبك ـــــ الهرمل الذين لا يزالون يستخدمون المعدّات الزراعية القديمة «من الزبورة (المنجل) والمعول والمجرفة».
«أنا كل ما بقي من سوق الخان في بعلبك»، يقول رعد في إشارة منه إلى أن محله الذي لا يفصله عن معبد فينوس الأثري التابع لقلعة بعلبك سوى أمتار قليلة كان داخل سوق الخان. والأخير كان أحد أشهر الأسواق التركية في المدينة، إبان الحكم العثماني، وكان يحوي سوقاً تجارياً، عدداً من الفنادق وإسطبلات الخيول، بالإضافة إلى الحمّامات التركية العامة، «بس دولاب الزمن برم، وأتى على السوق بأكمله، ولم يبق من الماضي غير صور بالذاكرة. أما محالّ الحدادة العربية التي كانت منتشرة، فلم يبق منها سوى هذا المحل».
اشتهر الرجل بتصنيع المعدّات الزراعية على اختلافها، وقد جعلته سنوات الخبرة الطويلة محل ثقة الزبائن في البقاع، وخصوصاً أنه تعلّم «كار» الحدادة العربية عندما كان في الخامسة عشرة من العمر. يومها طلب منه والده ترك المدرسة وإتقان مهنة أو حرفة «بتطعمي خبز، شو مفكّر تعمل محامي؟ قال لي». تعلّم في محل «المعلّم بشارة زخور» في مدينة الشمس لمدة خمس سنوات وبرع خلالها. عمد بعدها إلى استئجار محله الصغير في سوق الخان في عام 1948، «بمئة ليرة»، وبدأ من حينها بتصنيع سائر المعدات الزراعية التي تحتاج إليها اليد العاملة الزراعية في أعمال الحراثة والحصاد والتشحيل.
لا ينكر رعد، وهو يجلس على كرسيّه داخل محله، أن الأسى والحزن يختلجان في صدره، عندما ينظر إلى حال مهنته التي باتت «تراثاً، بعدما راحت إيام الشغل». فالمهنة التي كان لها تاريخ تمكنت الحداثة من تبديدها والقضاء عليها، نتيجة هجمة الآلات (الحصّادة والشمّالة والدرّاسة...) وتنحية اليد العاملة الزراعية. يشير بعصاه الخشبية صوب سوق الخان ويقول: «كان المشهد مختلفاً، أراه إلى اليوم أمام عينيّ، أيام الشغل كنا نفتح، أنا وزملائي محالّنا من طلوع الضو حتى نلحّق على طلبات مزارعي المنطقة، وخصوصاً أيام الحصاد، فكنت أدق نحو 100 زبورة باليوم، وما كنا نسكّر إلا بساعات متأخرة من الليل». ورداً على سؤال عمّا تغير في المهنة والأسعار على مر السنوات الماضية، يجيب: «من جهة أسعار التصليحات لم تختلف كثيراً في السنوات القليلة الماضية، لكن ما اختلف هو التصنيع؛ فالحديد شهدت أسعاره ارتفاعاً بوتيرة سريعة، الأمر الذي فرض زيادة ضئيلة على أسعار بعض القطع»، لكنه يبدي قناعته بالربح القليل «لأنو الناس اللي عم تستعمل هالقطع مزارعين وحالتهم متل حالتنا».
المعلم عبد الله تعرض منذ سبع سنوات لحادث صدم من أحد الفانات في المنطقة، ما أدى إلى إصابته بكسور عديدة في أنحاء جسمه، لكن «إرادة رب العالمين أنقذتني وتمكنت من السير، حتى أعود إلى عائلتي ومحلي وصنعتي». يعتذر رعد عن متابعة الحديث بضع دقائق ريثما يساعد ابنه في «دق الحديد وهوي حامي»، فيمسك كلّ منهما بمطرقة حديدية، وينهالان بالضرب على قطعة الحديد التي بدت كالجمر، وليستغل من بعدها الحديث عن طريقة عمله التي تتطلب سواعد قوية، وعدداً قليلاً من المعدّات، حيث تبدأ الأمور بتجهيز الفرن المعد لصهر الحديد المراد تصنيعه أو إصلاحه، ثم ضربه بالمطرقة على السندان ليأخذ الشكل المطلوب، سواء كان «زبورة» أو فأس أو معول، ليسقيه من بعدها بالماء عدة مرات بغية «زيادة قوته وقساوته»، ومن ثم يوضَع في وعاء «الصفوة»، وهو عبارة عن صفوة الفحم الحجري بعد إشعاله، ويجري في النهاية ترطيبه بالماء «حتى يبقى مطاوعاً في العمل خلال استخدامه».
رعد منح خبرته الطويلة في الحدادة العربية لاثنين من أبنائه الستة عشر، يواظبان على مساعدته، فضلاً عن آخرين من أبنائه يقصدون المحل ويقدمون العون بعد قدومهم من وظائفهم، ليصنعوا معاً بجدٍّ ونشاط من دون ملل قطعاً جميلة متناسقة، من مواد أولية طبيعية بسيطة، لا تتعدى قطع الحديد، فتصقل بموهبة فطرية.
عبد الله رعد الذي يفاخر بصورته الموجودة في كتاب القراءة العربية للصف الرابع أساسي، التي التقطت له بهدف التعريف بمهنة الحدادة العربية، يرى أن الصنعة «ما زال حالها مقبولاً ومستورة والحمد الله»، رغم هجمة الحداثة والآلات المتطورة، واعتماد غالبية المزارعين عليها. ويوضح أن غياب المنافسة في المنطقة بأكملها من حدادين، بالإضافة إلى استمرار بعض المزارعين في التوجه إلى المحل من أقاصي البقاع الشمالي لإنجاز بعض القطع والمعدات أو تصليحها، يسمح للمهنة بالاستمرار، لكن «بطلوع الروح»؛ فهي بحسب رعد «ما عادت تطعم خبزاً، أو تفتح منزلاً، علماً بأنها أتاحت لي تكوين عائلة كبيرة وتعليمها». هو يرى أن منح أبنائه خبرة عمله في الحدادة العربية ليس سوى محاولة للحفاظ على حرفة قديمة بمثابة «تراث بعلبكي»، مضيفاً: «وحتى يتمكن أحفادي من التعرف إلى مهنة أجدادهم». يقول ذلك لاقتناعه بأن مستقبل حرفة الحدادة العربية يتجه مسرعاً صوب الزوال بحسب رأيه «نتيجة الإهمال الكبير من الدولة في المحافظة على المهن التراثية القديمة، وعدم إيجاد أسواق لها، أو حتى تشجيع الحرفيين والوقوف إلى جانبهم وتقديم يد العون والمساعدة لهم لإبقاء صنعتهم».
توشك مهنة «أبو علي» أن تزول هي الأخرى لتنضم إلى لائحة طويلة من المهن القديمة، لتفقد بعلبك ـــــ الهرمل وجهاً آخر من أوجه التراث الجميل، في زمن نبدو فيه أحوج إلى ماضينا وتراثه «لإنو اللي ما عندو ماضي، ما إلو مستقبل أبداً» يختم رعد.
--------------------------------------------------------------------------------
معدّات منذ 1948
ما زالت معدّات عبد الله رعد في محله الصغير هي نفسها منذ أن استأجر محله في عام 1948، ما خلا الجلخ الكهربائي. وقد واظب رعد طوال العقود الماضية على تصنيع القطع والمعدات الزراعية، بدءاً من الشاكوش والقدّوم، مروراً بالزبورة والبلطة والفرّاعة (الفأس)، وصولاً إلى المجرفة والمعول.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق